فصل: تَرْكُ مَا تَعَافُهُ النّفْسُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ أُمُورِ الصّحّةِ:

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْعَافِيَةِ وَالصّحّةِ فَنَذْكُرُ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَتَبَيّنُ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنّهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنَالُ بِهِ حِفْظَ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ.

.فصل هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ:

فَأَمّا الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَبْسُ النّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدّاهُ إلَى مَا سِوَاهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَضُرّ بِالطّبِيعَةِ جِدّا وَقَدْ يَتَعَذّرُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ ضَعُفَ أَوْ هَلَكَ وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ لَمْ تَقْبَلْهُ الطّبِيعَةُ وَاسْتَضَرّ بِهِ فَقَصَرَهَا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ دَائِمًا- وَلَوْ أَنّهُ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ- خَطَرٌ مُضِرّ. كَانَ يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنْ اللّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُبْزِ وَالتّمْرِ وَغَيْرِهِ مِمّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَدْيِهِ فِي الْمَأْكُولِ فَعَلَيْك بِمُرَاجَعَتِهِ هُنَاكَ.

.تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ:

وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطّعَامَيْنِ كَيْفِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهَا وَعَدَلَهَا بِضِدّهَا إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِ حَرَارَةِ الرّطَبِ بِالْبِطّيخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ عَلَى حَاجَةٍ وَدَاعِيَةٍ مِنْ النّفْسِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فَلَا تَتَضَرّرُ بِهِ الطّبِيعَةُ.

.تَرْكُ مَا تَعَافُهُ النّفْسُ:

وَكَانَ إذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَحْمِلْهَا إيّاهُ عَلَى كُرْهٍ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ فَمَتَى أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَشْتَهِيهِ كَانَ تَضَرّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا قَطّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَمّا قُدّمَ إلَيْهِ الضّبّ الْمَشْوِيّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَرَاعَى عَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ بِأَرْضِهِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَشْتَهِيهِ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَمَنْ عَادَتُهُ أَكْلُهُ.

.مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلذّرَاع:

وَكَانَ يُحِبّ اللّحْمَ وَأَحَبّهُ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَمُقَدّمُ الشّاةِ وَلِذَلِكَ سُمّ فِيهِ وَفِي الصّحِيحَيْنِ: أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ.

.أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلرّقَبَةِ:

وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ أَنّهَا ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ فَقَالَتْ لِلرّسُولِ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إلّا الرّقَبَةُ وَإِنّي لَأَسْتَحْيِيَ أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ الرّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ إلَيْهَا فَقُلْ لَهَا: أَرْسِلِي بِهَا فَإِنّهَا هَادِيَةُ الشّاةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخَيْرِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى وَلَا رَيْبَ أَنّ أَخَفّ لَحْمِ الشّاةِ لَحْمُ الرّقَبَةِ وَلَحْمُ الذّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ أَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَسْرَعُ انْهِضَامًا وَفِي هَذَا مُرَاعَاةُ الْأَغْذِيَةِ الّتِي تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ:
أَحَدُهَا: كَثْرَةُ نَفْعِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْقُوَى.
الثّانِي: خِفّتُهَا عَلَى الْمَعِدَةِ وَعَدَمُ ثِقَلِهَا عَلَيْهَا.
الثّالِثُ سُرْعَةُ هَضْمِهَا وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتّغَذّي بِالْيَسِيرِ مِنْ هَذَا أَنْفَعُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ.

.مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ وَبَيَانُ أَنّهُمَا مَعَ اللّحْمِ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَة:

وَكَانَ يُحِبّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ- أَعْنِي اللّحْمَ وَالْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ- مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعِهَا لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ وَلِلِاغْتِذَاءِ بِهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إلّا مَنْ بِهِ عِلّةٌ وَآفَةٌ.

.يُؤْدِمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُبْزَ الشّعِيرِ بِاللّحْمِ وَالْبِطّيخِ وَالتّمْرِ وَالْخَلّ وَفَوَائِدُ ذَلِكَ:

وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَأْدُومًا مَا وَجَدَ لَهُ إدَامًا فَتَارَةً يَأْدِمُهُ بِاللّحْمِ وَيَقُولُ هُوَ سَيّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. وَتَارَةً بِالْبِطّيخِ وَتَارَةً بِالتّمْرِ فَإِنّهُ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةِ شَعِيرٍ وَقَالَ هَذَا إدَامُ هَذِهِ وَفِي هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ أَنّ خُبْزَ الشّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتّمْرَ حَارّ رَطْبٌ عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فَأَدْمُ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَارَةً بِالْخَلّ وَيَقُولُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَل وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ لَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ الْجُهّالُ وَسَبَبُ الْحَدِيثِ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمًا فَقَدّمُوا لَهُ خُبْزًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ إدَامٍ؟ قَالُوا: مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ فَقَالَ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَأْدُومًا مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ. وَسُمّيَ الْأَدْمُ أُدُمًا: لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصّحّةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي إبَاحَتِهِ لِلْخَاطِبِ النّظَرَ إنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا أَيْ أَقْرَبُ إلَى الِالْتِئَامِ وَالْمُوَافَقَةِ فَإِنّ الزّوْجَ يَدْخُلُ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ.

.أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاكِهَةَ:

وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا وَلَا يَحْتَمِي عَنْهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ فِي كُلّ بَلْدَةٍ مِنْ الْفَاكِهَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهَا فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ تَنَاوُلُهُ مِنْ أَسْبَابِ صِحّتِهِمْ وَعَافِيَتِهِمْ وَيُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَقَلّ مَنْ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ خَشْيَةَ السّقَمِ إلّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النّاسِ جِسْمًا وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ. وَمَا فِي تِلْكَ الْفَاكِهَةِ مِنْ الرّطُوبَاتِ فَحَرَارَةُ الْفَصْلِ وَالْأَرْضِ وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ شَرّهَا إذَا لَمْ يُسْرِفْ فِي تَنَاوُلِهَا وَلَمْ يُحَمّلْ مِنْهَا الطّبِيعَةَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ وَلَمْ يُفْسِدْ بِهَا الْغِذَاءَ قَبْلَ هَضْمِهِ وَلَا أَفْسَدَهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ بَعْدَ التّحَلّي مِنْهَا فَإِنّ الْقُولَنْجَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا يَنْبَغِي فِي الْوَقْتِ الّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي كَانَتْ لَهُ دَوَاءً نَافِعًا.

.فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ:

.عَدَمُ الِاتّكَاءِ عِنْدَ الْأَكْلِ:

صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا آكُلُ مُتّكِئًا وَقَالَ إنّمَا أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ.

.عَدَمُ الْأَكْلِ مَعَ الِانْبِطَاحِ:

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ أَنّهُ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى وَجْهِهِ.

.تَفْسِيرُ الِاتّكَاءِ:

وَقَدْ فُسّرَ الِاتّكَاءُ بِالتّرَبّعِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الشّيْءِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الْجَنْبِ. وَالْأَنْوَاعُ الثّلَاثَةُ مِنْ الِاتّكَاءِ فَنَوْعٌ مِنْهَا يَضُرّ بِالْآكِلِ وَهُوَ الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ فَإِنّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطّعَامِ الطّبِيعِيّ عَنْ هَيْئَتِهِ وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ نُفُوذِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَيَضْغَطُ الْمَعِدَةَ فَلَا يُسْتَحْكَمُ فَتْحُهَا لِلْغِذَاءِ وَأَيْضًا فَإِنّهَا تَمِيلُ وَلَا تَبْقَى مُنْتَصِبَةً فَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَيْهَا بِسُهُولَةٍ. الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَكَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُقْعٍ وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى تَوَاضُعًا لِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاحْتِرَامًا لِلطّعَامِ وَلِلْمُؤَاكِلِ فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا لِأَنّ الْأَعْضَاءَ كُلّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ الّذِي خَلَقَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْهَيْئَةِ الْأَدَبِيّةِ وَأَجْوَدُ مَا اغْتَذَى الْإِنْسَانُ إذَا كَانَتْ أَعْضَاؤُهُ عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُنْتَصِبًا الِانْتِصَابَ الطّبِيعِيّ وَأَرْدَأُ الْجِلْسَاتِ لِلْأَكْلِ الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْمَرِيءَ وَأَعْضَاءَ الِازْدِرَادِ تَضِيقُ عِنْدَ هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْمَعِدَةُ لَا تَبْقَى عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ لِأَنّهَا تَنْعَصِرُ مِمّا يَلِي الْبَطْنَ بِالْأَرْضِ وَمِمّا يَلِي الظّهْرَ بِالْحِجَابِ الْفَاصِلِ بَيْنَ آلَاتِ الْغِذَاءِ وَآلَاتِ التّنَفّسِ. وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاتّكَاءِ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْوَسَائِدِ وَالْوَطَاءِ الّذِي تَحْتَ الْجَالِسِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ مُتّكِئًا عَلَى الْأَوْطِيَةِ وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ الْجَبَابِرَةِ وَمَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطّعَامِ لَكِنّي آكُلُ بُلْغَةً كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ.

.فصل الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ:

وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَهَذَا أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكَلَاتِ فَإِنّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ لَا يَسْتَلِذّ بِهِ الْآكِلُ وَلَا يُمْرِيهِ وَلَا يُشْبِعُهُ إلّا بَعْدَ طُولٍ وَلَا تَفْرَحُ آلَاتُ الطّعَامِ وَالْمَعِدَةُ بِمَا يَنَالُهَا فِي كُلّ أَكْلَةٍ فَتَأْخُذُهَا عَلَى إغْمَاضٍ كَمَا يَأْخُذُ الرّجُلُ حَقّهُ حَبّةً أَوْ حَبّتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَلْتَذّ بِأَخْذِهِ وَلَا يُسَرّ بِهِ وَالْأَكْلُ بِالْخَمْسَةِ وَالرّاحَةِ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطّعَامِ عَلَى آلَاتِهِ وَعَلَى الْمَعِدَةِ وَرُبّمَا انْسَدّتْ الْآلَاتُ فَمَاتَ وَتُغْصَبُ الْآلَاتُ عَلَى دَفْعِهِ وَالْمَعِدَةُ عَلَى احْتِمَالِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ لَذّةً وَلَا اسْتِمْرَاءً فَأَنْفَعُ الْأَكْلِ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكْلُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ.

.فصل عَدَمُ الْأَكْلِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ:

وَمَنْ تَدَبّرَ أَغْذِيَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ يَأْكُلُهُ وَجَدَهُ لَمْ يَجْمَعْ قَطّ بَيْنَ لَبَنٍ وَسَمَكٍ وَلَا بَيْنَ لَبَنٍ وَحَامِضٍ وَلَا بَيْنَ غِذَاءَيْنِ حَارّيْنِ وَلَا بَارِدَيْنِ وَلَا لَزِجَيْنِ وَلَا قَابِضَيْنِ وَلَا مُسْهِلَيْنِ وَلَا غَلِيظَيْنِ وَلَا مُرْخِيَيْنِ وَلَا مُسْتَحِيلَيْنِ إلَى خَلْطٍ وَاحِدٍ وَلَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ كَقَابِضٍ وَمُسْهِلٍ وَسَرِيعِ الْهَضْمِ وَبَطِيئِهِ وَلَا بَيْنَ شَوِيّ وَطَبِيخٍ وَلَا بَيْنَ طَرِيّ وَقَدِيدٍ وَلَا بَيْنَ لَبَنٍ وَبَيْضٍ وَلَا بَيْنَ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي وَقْتِ شِدّةِ حَرَارَتِهِ وَلَا طَبِيخًا بَائِتًا يُسَخّنُ لَهُ بِالْغَدِ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْعَفِنَةِ وَالْمَالِحَةِ كَالْكَوَامِخِ وَالْمُخَلّلَاتِ وَالْمُلُوحَاتِ وَكُلّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَارّ مُوَلّدٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الصّحّةِ وَالِاعْتِدَالِ.

.تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ:

وَكَانَ يُصْلِحُ ضَرَرَ بَعْضِ الْأَغْذِيَةِ بِبَعْضٍ إذَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَكْسِرُ حَرَارَةَ هَذَا بِبُرُودَةِ هَذَا وَيُبُوسَةَ هَذَا بِرُطُوبَةِ هَذَا كَمَا فَعَلَ فِي الْقِثّاءِ وَالرّطَبِ وَكَمَا كَانَ يَأْكُلُ التّمْرَ بِالسّمْنِ وَهُوَ الْحَيْسُ وَيَشْرَبُ نَقِيعَ التّمْرِ يُلَطّفُ بِهِ كَيْمُوسَاتِ الْأَغْذِيَةِ الشّدِيدَةِ.

.الْأَمْرُ بِالْعَشَاءِ:

وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَشَاءِ وَلَوْ بِكَفّ مِنْ تَمْرٍ وَيَقُولُ تَرْكُ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.

.عَدَمُ النّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ:

وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ النّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ وَيَذْكُرُ أَنّهُ يُقْسِي الْقَلْبَ وَلِهَذَا فِي وَصَايَا الْأَطِبّاءِ لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَ الصّحّةِ أَنْ يَمْشِيَ بَعْدَ الْعَشَاءِ خُطُوَاتٍ وَلَوْ مِائَةَ خُطْوَةٍ وَلَا يَنَامُ عَقِبَهُ فَإِنّهُ مُضِرّ جِدّا وَقَالَ مُسْلِمُوهُمْ أَوْ يُصَلّيَ عَقِيبَهُ لِيَسْتَقِرّ الْغِذَاءُ بِقَعْرِ الْمَعِدَةِ فَيَسْهُلَ هَضْمُهُ وَيَجُودَ بِذَلِكَ.

.عَدَمُ الشّرْبِ عَلَى الطّعَامِ:

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَشْرَبَ عَلَى طَعَامِهِ فَيُفْسِدَهُ وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ الْمَاءُ حَارّا أَوْ بَارِدًا فَإِنّهُ رَدِيءٌ جِدّا. قَالَ الشّاعِرُ:
لَا تَكُنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ ** وَدُخُولِ الْحَمّامِ تَشْرَبُ مَاءَ

فَإِذَا مَا اجْتَنَبْتَ ذَلِكَ حَقّا ** لَمْ تَخَفْ مَا حَيِيت فِي الْجَوْفِ دَاءَ

.الْأَوْقَاتُ الّتِي يُنْصَحُ فِيهَا بِعَدَمِ الشّرْبِ:

وَيُكْرَهُ شُرْبُ الْمَاءِ عَقِيبَ الرّيَاضَةِ وَالتّعَبِ وَعَقِيبَ الْجِمَاعِ وَعَقِيبَ الطّعَامِ وَقَبْلَهُ وَعَقِيبَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَإِنْ كَانَ الشّرْبُ عَقِيبَ بَعْضِهَا أَسْهَلَ مِنْ بَعْضٍ وَعَقِبَ الْحَمّامِ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ فَهَذَا كُلّهُ مُنَافٍ لِحِفْظِ الصّحّةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَوَائِدِ فَإِنّهَا طَبَائِعُ ثَوَانٍ.

.فصل هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرَابِ:

.شُرْبُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفَوَائِدُهُ:

وَأَمّا هَدْيُهُ فِي الشّرَابِ فَمِنْ أَكْمَلِ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ فَإِنّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفِي هَذَا مِنْ حِفْظِ الصّحّةِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَى مَعْرِفَتِهِ إلّا أَفَاضِلُ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ شُرْبَهُ وَلَعْقَهُ عَلَى الرّيقِ يُذِيبُ الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَجْلُو لُزُوجَتَهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ أَنْفَعُ لِلْمَعِدَةِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ دَخَلَهَا وَإِنّمَا يَضُرّ بِالْعَرَضِ لِصَاحِبِ الصّفْرَاءِ لِحِدّتِهِ وَحِدّةِ الصّفْرَاءِ فَرُبّمَا هَيّجَهَا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ لَهُمْ بِالْخَلّ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ لَهُمْ نَافِعًا جِدّا وَشُرْبُهُ أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتّخَذَةِ مِنْ السّكّرِ أَوْ أَكْثَرِهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ وَلَا أَلِفَهَا طَبْعُهُ فَإِنّهُ إذَا شَرِبَهَا لَا تُلَائِمُهُ مُلَاءَمَةَ الْعَسَلِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْمُحَكّمُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فَإِنّهَا تَهْدِمُ أُصُولًا وَتَبْنِي أُصُولًا. وَأَمّا الشّرَابُ إذَا جُمِعَ وَصُفّيَ الْحَلَاوَةُ وَالْبُرُودَةُ فَمِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَلِلْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى وَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ عِشْقٌ شَدِيدٌ لَهُ وَاسْتِمْدَادٌ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ فِيهِ الْوَصْفَانِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ وَتَنْفِيذُ الطّعَامِ إلَى الْأَعْضَاءِ وَإِيصَالُهُ إلَيْهَا أَتَمّ تَنْفِيذٍ.

.مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَارِدِ:

وَالْمَاءُ الْبَارِدُ رَطْبٌ يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ وَيَحْفَظُ عَلَى الْبَدَنِ رُطُوبَاتِهِ الْأَصْلِيّةَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا تَحَلّلَ مِنْهَا وَيُرَقّقُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ فِي الْعُرُوقِ.